الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل
.باب صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ: الْمُرَادُ بِالتَّطَوُّعِ غَيْرُ الْفَرْضِ فَيَشْمَلُ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ، وَالْمُسْتَحَبَّةَ وَغَيْرَهَا مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَمْثَالِهَا.(حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) اسْمُ مَفْعُولٍ كَمَرْمِيٍّ (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ) وَهُوَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ابْنِ حَكِيمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَيُقَالُ الْعَنْسِيُّ بِالنُّونِ الدِّمَشْقِيُّ، وَهُوَ حَرَامُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ يَقُولُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَوَهِمَ مَنْ جَعَلَهُمَا اثْنَيْنِ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْحَرَمِيُّ، وَقِيلَ الْقُرَيْشِيُّ الْأُمَوِيُّ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ) أَيِ: النَّافِلَةِ (فِي بَيْتِي وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: أَيُّهُمَا أَحَبُّ (قَالَ قَدْ تَرَى) الْخِطَابَ لِلسَّائِلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَامُّ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ (مَا أَقْرَبَ بَيْتِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ) صِيغَةُ تَعَجُّبٍ أَتَى بِهَا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ قَدْ تَرَى زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ لِفِعْلِ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَأَنْ أُصَلِيَ) الْفَاءُ: فَصِيحَةٌ، وَأَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِصَلَاتِي (فِي بَيْتِي) أَيْ: مَعَ كَمَالِ قُرْبِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْبَعِيدِ عَنِ الْمَانِعِ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِيَ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: حَذَرًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعَجَبِ، وَتَحْقِيقًا لِتَصْدِيقِ الْإِيمَانِ، وَمُخَالَفَةً لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَصْدَ وَصُولِ الْبَرَكَةِ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَأَهْلِهِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) أَيِ: الصَّلَاةُ (صَلَاةً مَكْتُوبَةً) أَيْ: فَرِيضَةً؛ فَإِنَّ الْأَحَبَّ إِلَيَّ صَلَاتُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصِّيَامِ جَهْرًا وَسِرًّا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنَ الصَّحِيحِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا، وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ. اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صَلَاةُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا صَلَاةُ الطَّوَافِ؛ فَإِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ إِجْمَاعًا سَوَاءً قِيلَ بِوُجُوبِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ بِسُنِّيَّتِهَا كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَا سُنَّةُ التَّرَاوِيحِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ وَكَذَا قَوْلُهُ، وَبِهِ عُلِمَ أَفْضَلِيَّةُ الْبَيْتِ حَتَّى عَلَى جَوْفِ الْكَعْبَةِ. .باب مَا جَاءَ فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَطَوُّعًا كَمَا قَالَ مِيرَكُ: نَظَرًا إِلَى أَكْثَرِ مَا وَرَدَ أَوْ إِلَى أَصَالَتِهِ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ أَوْ فَرْضًا، وَنَفْلًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَبَعًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابُ مَا جَاءَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّوْمُ بِالْفَتْحِ وَالصِّيَامُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ أَصْلَ الصِّيَامِ صِوَامٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا كَالْقِيَامِ.(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بِتَحْتِيَّةٍ (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ) أَيْ: أَحْيَانًا (يَصُومُ) أَيْ: صِيَامًا مُتَتَابِعًا فِي النَّفْلِ (حَتَّى نَقُولَ) أَيْ: نَحْنُ فِي أَنْفُسِنَا أَوِ الْقَوْلُ بِمَعْنَى الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ أَيْ: حَتَّى نَظُنَّ (قَدْ صَامَ) أَيْ: جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَالْأَيَّامَ أَوْ دَاوَمَ عَلَى الصِّيَامِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَدْ صَامَ قَالَ مِيرَكُ: وَالرِّوَايَةُ بِالنُّونِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِ أَيْ: تَقُولُ أَيُّهَا السَّامِعُ لَوْ أَبْصَرْتَهُ، وَيَجُوزُ بِيَاءِ الْغَائِبِ أَيْ: يَقُولُ الْقَائِلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاللَّهِ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاللَّهِ لَا يَصُومُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} بِالرَّفْعِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ انْتَهَى مَا كَتَبَهُ فِي الْهَامِشِ. لَكِنْ قَالَ فِي شَرْحِهِ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْفَصِيحَةُ بِنَصْبِ يَقُولُ، وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَ الرَّفْعَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَتَّى لِلْغَايَةِ يَجُوزُ رَفْعُ مَدْخُولِهَا بِحَسْبِ الدِّرَايَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الرِّوَايَةِ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ (وَيُفْطِرُ) أَيْ: وَكَانَ أَحْيَانًا يُفْطِرُ إِفْطَارًا مُتَوَالِيًا (حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ) أَيْ: كُلَّ الْإِفْطَارِ، وَأَفْطَرَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَدْ أَفْطَرَ (قَالَتْ: وَمَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا كَامِلًا) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَتَابُعَ صَوْمِهِ كَانَ دُونَ الشَّهْرِ (مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أَيْ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ (إِلَّا رَمَضَانَ) أَيْ:؛ فَإِنَّهُ صَامَهُ كَامِلًا لِكَوْنِهِ فَرْضًا لَازِمًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَخْلُوَ شَهْرٌ مِنْ صَوْمِ نَفْلٍ، وَأَنْ لَا يُكْثَرَ مِنْهُ حَتَّى لَا يَمَلَّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّطِ وَالِاقْتِصَارِ، وَقُيِّدَتْ بِابْتِدَاءِ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ أَنَّ الْوَاضِعَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَافَقَ أَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ شَدِيدُ الْحَرِّ، فَسَمَّوْهُ بِذَلِكَ كَمَا سُمِّيَ الرَّبِيعَانِ لِمُوَافَقَتِهِمَا زَمَنَ الرَّبِيعِ. قُلْتُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْخَرِيفِ فَلَا يَكُونُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ وَقْتَ إِلْهَامِ ذَلِكَ الِاسْمِ طَابَقَ الْمُسَمَّى، وَلَا يُعَارِضُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ وُجُوهِ التَّسْمِيَةِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ لَا مِنْ رَمَضِ الذُّنُوبِ أَيْ: أَحْرَقَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ انْتَهَى. مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْمَشْرُوعِ الْقَدِيمِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَدْ نَوَّعَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: وَسُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَوَافَقَ رَمَضَانُ زَمَنَ الْحَرِّ، وَالرَّمَضِ أَوْ مِنْ رَمِضَ الصَّائِمُ اشْتَدَّ جَوْفُهُ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْرِقُ الذُّنُوبَ، وَرَمَضَانُ إِنْ صَحَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَغَيْرُ مُشْتَقٍّ أَوْ رَجَعَ إِلَى مَعْنَى الْغَافِرِ أَيْ يَمْحُو الذُّنُوبَ، وَيَمْحَقُهَا، وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَمَضَانُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّهْرِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُقَالُ رَمَضَانُ بِانْفِرَادِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ رَمَضَانَ بِانْفِرَادِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِقَيْدٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى الشَّهْرِ، فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ فَيُقَالُ صُمْنَا رَمَضَانَ وَقُمْنَا رَمَضَانَ وَرَمَضَانُ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ جَاءَ رَمَضَانُ، وَدَخَلَ رَمَضَانُ قُلْتُ فِيهِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَجِيءِ، وَالدُّخُولِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ». فَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ بِقَوْلِهِ أُحِبُّ رَمَضَانَ، وَنَحْوَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ حَاءٍ فَسُكُونِ جِيمٍ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ أَيِ: الْمُلَقَّبُ بِالطَّوِيلِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ يَصُومُ) أَيْ: أَحْيَانًا (مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ: بَعْضَ أَيَّامِهِ مُتَّصِلَةً (حَتَّى نَرَى) بِنُونِ الْجَمْعِ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَيَجُوزُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: نَظُنُّ بِالنُّونِ، وَالْيَاءِ مُتَكَلِّمًا، وَغَائِبًا انْتَهَى. فَقَوْلُهُ غَائِبًا يَحْتَمِلُ الْمَعْلُومَ وَالْمَجْهُولَ بَلْ إِطْلَاقُهُ يُؤَيَّدُ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ، وَإِمَّا حِلُّ الْمَعْنَى فَعَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي نَقُولُ كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ قَوْلُهُ (أَنْ لَا يُرِيدَ) بِالنَّصْبِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ (أَنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالرَّفْعُ مُتَعَيَّنٌ كَمَا أَنَّ النَّصْبَ لَازِمٌ فِي قَوْلِهِ (أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ شَيْئًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَتُهُ الْآتِيَةُ (وَيُفْطِرُ) أَيْ: مِنْهُ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَعْنَى وَكَانَ يُفْطِرُ أَحْيَانًا مِنَ الشَّهْرِ إِفْطَارًا مُتَتَابِعًا (حَتَّى نَرَى) بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ (أَنَّهُ) كَذَا فِي الْأَصْلِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ أَنْ (لَا يُرِيدُ) وَيَعْلَمُ حَالَهُ مِمَّا سَبَقَ (أَنْ يَصُومَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ (شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الصِّيَامِ أَوِ الْأَيَّامَ (وَكُنْتَ) بِالْخِطَابِ الْعَامِّ (لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا أَنْ رَأَيْتَهُ) أَيْ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ رَأَيْتَهُ (مُصَلِّيًا وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ) بِدُونِ أَنْ خِلَافَ مَا قَبْلَهُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ مُنَافٍ أَيْ: إِلَّا زَمَانُ رُؤْيَتِكَ إِيَّاهُ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا كَمَا فِي مَا قَبْلَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَّا أَنْ رَأَيْتَهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَقْتُ مَشِيئَتِكَ أَبَدًا يَكُونُ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَالنَّوْمِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ السَّابِقَيْنِ (نَائِمًا) أَيْ: أَنَّ صَلَاتَهُ، وَنَوْمَهُ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاللَّيْلِ وَلَا يُرَتِّبُ وَقْتًا مُعَيَّنًا بَلْ بِحَسْبِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ الْقِيَامُ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ، فَإِنَّ عَائِشَةَ تُخْبِرُ عَمَّا لَهَا عَلَيْهِ إِطْلَاعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُ غَالِبًا فِي الْبَيْتِ فَخَبَرُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ يَعْنِي أَنَّ حَالَهُ فِي التَّطَوُّعِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ يَخْتَلِفُ، فَكَانَ تَارَةً يَقُومُ مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ، وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ فَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ قَائِمًا، فَوَافَاهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَادِفَهُ قَامَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ هَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَوْعِبُ اللَّيْلَ قَائِمًا، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةَ دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا اتَّخَذَهُ وَاجِبًا لَا مُطْلَقَ النَّافِلَةِ، وَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَإِلَّا فَظَاهَرُهُمَا التَّعَارُضُ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ لَا يَشْفِي الْعَلِيلَ كَمَا تَرَى قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِعْمَالُ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى بِالتَّهَجُّدِ مَثَلًا تَارَةً يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَارَةً فِي آخِرِهِ لَا يُنَافِي مُدَاوَمَةَ الْعَمَلِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ تَارَةً يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَتَارَةً فِي آخِرِهِ لَا يُنَافِي وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَدَلِيلٌ بَاهِرٌ يُشْفَى بِهِ الْعَلِيلُ وَيَصِحُّ فِيهِ التَّعْلِيلُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: لَا فِي لَا تَشَاءُ بِمَعْنَى لَيْسَ أَوْ بِمَعْنَى لَمْ أَيْ لَسْتَ تَشَاءُ أَوْ لَمْ تَكُنْ تَشَاءُ أَيْ لَا مِنْ زَمَانٍ تَشَاءُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَلَعَلَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْبَدَلِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَنْ يُقَالَ أَنْ تَشَاءَ رُؤْيَتَهُ مُتَهَجِّدًا، وَإِنْ تَشَاءَ رُؤْيَتَهُ نَائِمًا رَأَيْتَهُ نَائِمًا يَعْنِي كَانَ أَمْرُهُ قَصْدًا لَا إِسْرَافَ، وَلَا تَقْصِيرَ يَنَامُ أَوَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنَامَ فِيهِ كَأَوَّلِ اللَّيْلِ، وَيُصَلِّي أَوَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ كَآخِرِ اللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا حِكَايَةُ الصَّوْمِ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ عَلَى مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَصُومُ النَّهَارَ أَبَدًا وَلَا أُفْطِرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، أَوْ كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَزَادَ أَنَسٌ عَلَى السُّؤَالِ زِيَادَةَ إِفَادِةِ حَالِ الصَّلَاةِ لِاسْتِيفَاءِ الْأَحْوَالِ وَلِلدِّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ اسْتِحْضَارِهِ فِي كُلِّ مِنْوَالٍ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ، وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيِّ وَاسْمُهُ إِيَاسٌ (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ) أَيْ: مِنْهُ (حَتَّى نَقُولَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ حَتَّى يَقُولُوا (مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ وَيُفْطِرُ) أَيْ: مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ حَتَّى نَقُولُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَمَا صَامَ، أَيْ: لَمْ يَصُمْ (شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ)، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورُ مَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ شَهْرًا تَامًّا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ مَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ) قِيلَ سُمِّيَ شَعْبَانُ لِتَشَعُّبِهِمْ فِي طَلَبِ الْمِيَاهِ، وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ لِتَشَعُّبِهِمْ فِي الْغَارَاتِ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ شَهْرُ رَجَبٍ الْحَرَامُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ. قُلْتُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ صَامَ أَكْثَرَهُ؛ فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانُ أَنَّ قَوْلَهَا كُلَّهُ أَيْ: غَالِبَهُ فَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ هَاهُنَا شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْتَبِرِ الْإِفْطَارَ الْقَلِيلَ مِنْهُ، وَحَكَمَتْ عَلَيْهِ بِالتَّتَابُعِ لِقِلَّتِهِ، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ يُقَالُ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى، وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَكَانَ ابْنَ الْمُبَارَكَ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَا اسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ مُعَلِّلًا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ تَأْكِيدُ إِرَادَةِ الشُّمُولِ وَدَفْعِ التَّجَوُّزِ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ قَالَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ، وَيَصُومُ بَعْضَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ وَاجِبٌ كَرَمَضَانَ فَعَلَى هَذَا مُرَادُ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِمَا مَا صَامَ شَهْرًا مَا صَامَهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمَا كُلَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ وَلَا يَخُصُّ بَعْضَهُ بِصِيَامٍ دُونَ بَعْضٍ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَاطَّلَعَتْ عَلَيْهِ أَمُّ سَلَمَةَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَجَمَعَ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ قَدْ يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَعْبَانَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فِيمَا مَرَّ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مَكَّةَ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرْدُ صَوْمٍ لَا فِي شَعْبَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ. فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَلَامُهَا أَنَّهَا رَأَتْهُ يَصُومُ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا فِي مَكَّةَ أَوْ بَلَغَهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، فَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: يَجْمَعُ بِأَنَّ قَوْلَهَا الثَّانِيَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهَا الْأَوَّلِ فَأَوَّلُ أَمْرِهِ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ، وَآخِرُهُ كَانَ يَصُومُ كُلَّهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ وَقَالَ ابْنُ حَجْرٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْجَمْعِ بِهَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى عَكْسِ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ بِمَا يُوَافِقُ التَّرْتِيبَ اللَّفْظِيَّ أَوْجَهُ أَيْ: كَانَ أَوَّلَ أَمْرِهِ يَصُومُ كُلَّهُ فَلَمَّا أَسَنَّ وَضَعُفَ صَارَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ قُلْتُ لَعَلَّ الْحَامِلَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْأَوْلَى مَنْظَرًا إِلَى التَّرَقِّي إِلَى الْمَقَامِ الْأَعْلَى لَاسِيَّمَا وَقَدْ أُكِّدَ أَمْرُ الصَّوْمِ فِي الْأُخَرِ بِفَرْضِيَّةِ رَمَضَانَ فَقَابَلَهُ بِزِيَادَةِ الْإِحْسَانِ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ رِوَايَةَ النَّفْيِ مُطْلَقَةٌ، وَرِوَايَةَ الْإِثْبَاتِ مُقَيَّدَةٌ بِالرُّؤْيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُتَأَخِّرَةٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى كَمَالِ قُرْبِهَا، وَقُوَّةِ حِفْظِهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (قَالَ أَبُو عِيسَى:) أَيِ: المصنف (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ سَابِقًا (إِسْنَادٌ صَحِيحٌ) أَيْ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (وَهَكَذَا قَالَ) أَيْ: رَوَى ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ جَمِيعًا) أَيْ: مَعًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَارَةً وَوَافَقَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو النَّضْرِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي غِيَاثٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَخَالَفَهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ الْجَعْدِ فَرَوَيَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَتَعَيَّنُ هَذَا الِاحْتِمَالُ لِتَصِحَّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَتَسْلَمَا مِنَ الِاضْطِرَابِ؛ فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَرْوِي مِنْ كُلٍّ مِنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ فِي الشَّهْرِ) أَيْ: فِي شَهْرٍ مِنَ الْأَشْهُرِ (أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ) صِفَةُ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَيْ: صِيَامًا أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي شَعْبَانَ) مُتَعَلِّقٌ بِصِيَامِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ هَنَا صِيَامُ التَّطَوُّعِ، فَلَا يُشْكَلُ بِرَمَضَانَ ثُمَّ جُمْلَةُ يَصُومُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ لَمْ أَرَ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَإِلَّا بِأَنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَهِيَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهَا وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَأَكْثَرُ ثَانِي مَفْعُولَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا بَلْ كَانَ يَصُومُ كُلَّهُ) أَيْ: كَانَ يَصُومُ كُلَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا لَا يَصُومُهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ صَامَ كُلَّهُ فَكَلِمَةُ بَلْ لِلتَّرَقِّي، وَلَا يُنَافِي حِينَئِذٍ قَوْلَهَا إِلَّا قَلِيلًا وَلَا مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ أَيْضًا كُلُّهُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ بِأَنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ قُدُومِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَحِينَئِذٍ كَانَ بَلْ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَحِكْمَةُ الْإِضْرَابِ أَنَّ قَوْلَهَا إِلَّا قَلِيلًا رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ يَكُونُ ثُلُثَ الشَّهْرِ، فَبَيَّنَتْ بِكُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ صَامَهُ كُلَّهُ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَإِنَّمَا لَمْ يُكْمِلْهُ لِئَلَّا يُظَنُّ وُجُوبُهُ فَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى هَذَا وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ. مَا رَأَيْتُهُ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ، وَفِي آخَرَ لِلنَّسَائِيِّ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ أَوْ عَامَّةَ شَعْبَانَ، وَفِي أُخْرَى لَهُ أَيْضًا كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ صَوْمَ شَعْبَانَ أَفْضَلُ مِنْ رَجَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَشْهُرِ الْحُرُمِ لَكِنْ يُشْكِلُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ أَوْ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ عَنْ إِكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ مِيرَكُ: كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ انْتَهَى. وَبِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ صَوْمُ السُّنَّةِ فَيَصُومَ شَعْبَانَ. وَبِأَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ شَعْبَانَ بِالصِّيَامِ تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي الصَّلَوَاتِ قَبْلَ الْمَكْتُوبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ عِنْدَ المص، وَلَوْ فِي إِسْنَادِهِ صَدَقَةٌ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ قَالَ: شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَبِأَنَّ صَوْمَهُ كَالتَّمَرُّنِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّوْمِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلْهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةً، وَلَا قَضَاءً، وَلَا نَذْرًا، وَيُضْعِفْهُ عَنْ أَدَاءِ رَمَضَانَ أَوْ يُكْسِلْهُ، فَيَصُومُ الْفَرْضَ بِلَا نَشَاطٍ. وَبِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ، وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ. وَنَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى لَكِنْ قَالَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ كُلَّ نَفْسٍ مَيِّتَةٍ تِلْكَ السَّنَةَ، فَأُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَنِي أَجَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ. فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَصُومُونَ فِي رَجَبٍ كَثِيرًا لِكَوْنِهِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمُعَظَّمِ عِنْدَهُمْ، فَنَبَّهَهُمْ بِكَثْرَةِ صِيَامِهِ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مَعَ زِيَادَةِ إِفَادَةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ فِيهِ، وَالْآجَالَ تُنْسَخُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى أَكْثَرَ صِيَامِكَ فِي شَعْبَانَ قَالَ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُكْتَبُ فِيهِ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَقْبِضُ؛ فَأُحِبُّ أَنْ لَا يُنْسَخَ اسْمِي إِلَّا وَأَنَا صَائِمٌ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي وَجْهِ اخْتِصَاصِ شَعْبَانَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: «رَجَبُ شَهْرُ اللَّهِ، وَشَعْبَانُ شَهْرِي، وَرَمَضَانُ شَهْرُ أُمَّتِي». عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ فَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. فَمَحَلُّ بَحْثٍ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ إِذَا جَاءَ بِطْرِيقٍ آخَرَ مَرْفُوعٌ فَالْمُحَقِّقُونَ يُرَجِّحُونَ الرَّفْعَ مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. نَعَمْ يُعَارِضُهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ إِلَى الصَّوْمِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَرَجَبٌ أَحَدُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ بِغَيْرِ رَجَبٍ. وَكَذَا يُنَافِيهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ فِي رَجَبٍ قَالَ نَعَمْ، وَيُشَرِّفُهُ قَالَهَا ثَلَاثًا. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا لِصَوْمِ رَجَبٍ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا عَنْ بَلَاغٍ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَرْجِيحٍ بِتَصْحِيحِ أَحَدِهِمَا أَوْ إِلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا إِنْ عُرِفَ تَارِيخُهُمَا. (حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ دِينَارٍ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَطَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (عَنْ شَيْبَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ زَايٍ، وَتَشْدِيدِ رَاءٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْمِشْكَاةِ مَعَ أَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، وَغَالِبِ الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ (قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ) بِضَمِّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَتَشْدِيدِ رَاءٍ أَيْ: أَوَّلِهِ وَالْمُرَادُ هُنَا أَوَائِلُهُ لِقَوْلِهِ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ) قِيلَ مَا: كَافَّةٌ، وَقِيلَ صِلَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقِلَّةِ وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: قَلَّ كَوْنُهُ مُفْطِرًا (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ حَيْثُ ذَهَبَا إِلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ حَسَنٌ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ إِلَّا أَنْ يِوَافِقَ عَادَةً لَهُ مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رُسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ أَوْ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْوِصَالِ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ لَا يَصُومُ أَحَدُكُمُ الْمَشْعَرِ بِتَخْصِيصِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَى عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْتَحْسَنَ، وَأَطَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا لَكِنَّ السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ، وَغَيْرُهُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. قُلْتُ: عَدَمُ بُلُوغِ الْحَدِيثِ مَالِكًا، وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اسْتِحْسَانَهُ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوِ اطَّلَعَ عَلَى تَارِيخٍ دَلَّ عَلَى نُسْخَةٍ أَوْ لَمَّا تَعَارَضَ حَدِيثُ الْفِعْلِ وَالنَّهْيِ وَتَسَاقَطَا بَقِيَ أَصْلُ الصَّوْمِ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ. فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ غَيْرَهُ أَبَدًا الْمُوهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَسْقَلَانِيِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ فِطْرَهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ يَصُومُهَا، وَلَا يُضَادُّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ. فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ أَوِ النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ لَا بِمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْقُوَّةَ كَمَا ذَكَرُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؛ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَضُرُّهُ، وَإِلَّا فَصَوْمُهُ أَحَبُّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا مِنَ الشَّهْرِ، فَلْيَصُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَلَا يَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّهُ يَوْمُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَذِكْرٍ، فَكَأَنَّهُ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ فِيهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ سَائِرَ الطَّاعَاتِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ فِيهِ إِذَا كَانَ يُعْجِزُهُ عَنْ وَظَائِفِ الْأَذْكَارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ لِكَوْنِهِ يَوْمَ عِيدٍ وَالْعِيدُ لَا يُصَامُ، وَقِيَاسًا عَلَى أَيَّامِ مِنَى حَيْثُ وَرَدَ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْتَ، وَالْأَحَدَ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُمَا يَوْمُ عِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ، وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِلَّا أَنْ يُصَامَ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَجَابَ ابْنُ جَوْزِيٍّ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ شَبَهَهُ بِالْعِيدِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِوَاءَهُ مَعَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَمَنْ صَامَ مَعَهُ غَيْرُهُ انْتَفَتْ عَنْهُ صُورَةُ التَّحَرِّي بِالصَّوْمِ قَالَ: وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ، وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ انْتَهَى. وَقِيلَ سَبَبُ النَّهْيِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا خَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ فِي التَّرَاوِيحِ لِذَلِكَ وَدَفَعَ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِإِجَازَةِ صَوْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ لِجَوَازِهِ بَعَدِّهِ مُنْفَرِدًا عِنْدَنَا أَوْ مُنْضَمًّا اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَنِينَ إِلَّا بِصَوْمِهِ وَحْدَهُ ظَنًّا لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، وَلِذَا قِيلَ سَبَبُ النَّهْيِ خَوْفُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ بِحَيْثُ يُفْتَتَنُ بِهِ كَمَا أَفْتُتِنَ قَوْمٌ بِالسَّبْتِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَتَعْلِيلِيٌّ لَائِحٌ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيُّ هَذَا ضَعِيفٌ مُنْتَقَضٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ وَظَائِفِ الْيَوْمِ. فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمُومَ الصَّوْمِ الشَّامِلِ لِلرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَسُكَّانِ الْبَادِيَةِ، وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ لَيْسَ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِشُرُوطٍ فِي وُجُوبِهَا، وَصِحَّةِ أَدَائِهَا مَعَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الْمُؤَدَّاةِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَالْفَصْلُ بَاهِرٌ. وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا أَنَّهُ يَوْمُ دُعَاءٍ، وَعِبَادَةٍ مِنَ الْغُسْلِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَإِكْثَارِ ذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَاسْتَحَبَّ الْفِطْرَ فِيهِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْوَظَائِفِ،، وَأَدَائِهَا بِنَشَاطٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَاجِّ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِنَّ السُّنَّةَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ. فَفِيهِ أَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ لِمَنْ يَضْعُفُ بِالصِّيَامِ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ أَوْ أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيهِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ مَعَ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا زَالَتِ الْكَرَاهَةُ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لِبَقَاءِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِفَضْلِ الصَّوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مَا يَجْبُرُ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ فُتُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي وَظَائِفِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ صَوْمِهِ. فَمَعَ كَمَالِ بُعْدِهِ مَرْدُودٌ بِمَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْجُبْرَانَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الصَّوْمِ بَلْ يَحْصُلُ بِجَمْعِ الْأَفْعَالِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ إِفْرَادِهِ لِمَنْ عَمِلَ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا يَقُومُ مَقَامَ صِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مَثَلًا، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ وَصَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ قَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ، وَيَكْفِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ صَوْمُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ثُمَّ اسْتِقْبَالُ كُلِّ شَهْرٍ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ، وَوُصُولِ النِّعْمَةِ، وَلِتَقُومَ الثَّلَاثَةُ مَقَامَ الشَّهْرِ بِاعْتِبَارِ الْمُضَاعَفَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَكَمَا وَرَدَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْمُبَادِرَةَ إِلَى الطَّاعَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ؛ فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ، فَلَا يُنَافِي حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّهِ صَامَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا أَجَابَ عَنْهُ مِيرَكُ بِقَوْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ بِحَسْبِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ اطَّلَعَتْ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ أَنَّ الْأَوْجَهَ فِي الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ تَارَةً كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَأُخْرَى مِنْ وَسَطِهِ وَأُخْرَى مِنْ آخِرِهِ أَوْ يُخَالِفُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ لِيَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الْأَيَّامِ وَلِلْأَيَّامِ جَمِيعًا بَرَكَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَالِاثْنَيْنَ مِنْ جُمُعَةٍ، وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ مِنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِغُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ظُهُورُهُ وَطُلُوعُهُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَوْنِ صِيَامِهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ الْغُرَّةَ مِنَ الْهِلَالِ طَلْعَتُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كُلُّ مَنْ رَآهُ فَعَلَ نَوْعًا ذَكَرَهُ، وَعَائِشَةُ رَأَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَتْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ صَامَ. (حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَفَتْحِ رَاءٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى) مِنَ التَّحَرِّي هُوَ طَلَبُ الْحَرَى أَوِ الْأَحْرَى بِحَسْبِ الظَّنِّ الْغَالِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} أَيْ: كَانَ يَقْصِدُ (صَوْمَ الِاثْنَيْنِ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَيْ: صَوْمَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ (وَالْخَمِيسِ) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَتُصُحِّفَ الصَّوْمُ بِالْيَوْمِ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ فَقَالَ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، وَفِيهِ أَنَّ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ، وَأَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْهُمَا الِاسْمُ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهِ تَارَةً مَجَازٌ ثُمَّ قَالَ أَيْ: صَوْمُهُمَا فَقُدِّرَ الْمُضَافُ بِنَاءً عَلَى وَهْمِهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَعَلَّلَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ فِيهِمَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي قَرِيبًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيِ: الْمُقَاطِعِينَ لِمَنْ يَحْرُمُ مُقَاطَعَتُهُ انْتَهَى. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَالَ إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ يَقُولُ دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ فَتَخْصِيصُ الْيَوْمَيْنِ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ لِحِيَازَةِ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَضِيلَتُهُمَا مِنَ بَيْنِ الْأَيَّامِ لَا تَخْفَى عَلَى عَامَّةِ الْأَنَامِ فَيَنْبَغِي فِيهِمَا إِكْثَارُ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَخُصُوصُ الصِّيَامِ بِتَحَرِّيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَشْكَلَ اسْتِعْمَالُ الِاثْنَيْنِ بِالْيَاءِ مَعَ قَوْلِهِمَا إِنَّ الْمُثَنَّى وَمَا أُلْحِقَ بِهِ إِذَا جُعِلَ عَلَمًا وَأُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ يَلْزَمُهُ الْأَلِفُ كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ إِذَا جُعِلَ كَذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْوَاوُ إِلَّا مَا شَذَّ، وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْأَوَّلِ الْبَحْرَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِ الْيَاءُ انْتَهَى. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ كَالْبَحْرَيْنِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَيُسْتَدَلُّ بِنُطْقِهَا بِهِ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ فِيهِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ لَفْظَ الِاثْنَيْنِ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا بِالْحَرَكَةِ وَالْحَرْفِ؛ فَإِنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ النُّونِ أَوْ بِوُجُودِ الْيَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَ عَلَمًا بِانْفِرَادِهِ فَلَيْسَ كَالْبَحْرَيْنِ عَلَى مَا تُوُهِّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا، وَالْمَبْحَثُ فِي مَحِلِّهِ الْأَلْيَقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) وَفِي نُسْخَةٍ أَبُو الْعَاصِمِ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رِفَاعَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ) أَيْ: عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي) أَيْ: فِيهِمَا (وَأَنَا صَائِمٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ فَاعِلِ فَأُحِبُّ وَالْفَاءُ لِسَبَبِيَّةِ السَّابِقِ لِلَّاحِقِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لِصِيَامِهِ فِيهِمَا سَبَبٌ آخَرُ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ أَيْ: أَوَّلُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُعَارِضُهُ عَرْضُهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ نُزُولِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِرَفْعِ ذَلِكَ، وَعَرْضُهُ وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَرْضٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَذَاكَ عَرْضٌ إِجْمَالِيٌّ، وَيُعْرَضُ أَيْضًا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَرْضًا تَفْصِيلِيًا، وَذَاكَ عَرْضٌ إِجْمَالِيٌّ أَيْضًا لَكِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرْضُ أَعْمَالِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ لِأَعْمَالِ الْأُسْبُوعِ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَعْمَالِ اللَّيْلِيَّةِ أَوِ الْأَعْمَالِ النَّهَارِيَّةِ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: إِنَّ مَلَائِكَةَ الْأَعْمَالِ يَتَنَاوَبُونَ فَيُقِيمُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْخَمِيسِ فَيَعْرُجُونَ، وَفَرِيقٌ مِنَ الْخَمِيسِ إِلَى الِاثْنَيْنِ، فَيَعْرُجُونَ وَكُلَّمَا عَرَجَ فَرِيقٌ قَرَأَ مَا كُتِبَ فِي مَوْقِفِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَرْضًا فِي الصُّورَةِ، فَلِذَا يَحْسَبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهً لِلْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَغَنِيٌّ عَنْ عَرْضِهِمْ، وَنَسْخِهِمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِاكْتِسَابِ عِبَادِهِ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ) بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ: مِنْ أَيَّامِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي الشَّهْرِ أَيْ: فِي شَهْرٍ مِنَ الْأَشْهُرِ (السَّبْتَ)، وَسُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّبْتَ الْقَطْعُ وَذَلِكَ الْيَوْمُ انْقَطَعَ فِيهِ الْخَلْقُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ابْتَدَأَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَتَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْعَالَمِ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْعِلْمِ الْمُتَأَخِّرَةُ فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَرَاحَ فِيهِ فَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} وَمِنْ ثَمَّةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا أَبْلَدَ مِنَ الْيَهُودِ وَكَذَا مَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ (وَالْأَحَدُ)؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا بَدَأَ الْخَلْقَ فِيهِ أَوْ أَوَّلُ الْأُسْبُوعِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ (وَالِاثْنَيْنِ) بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرْفِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرَكَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ أَوْ عَلَى جَعْلِ اللَّفْظِ الْمُثَنَّى عَلَمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَأُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ لَا بِالْحَرْفِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْجَمْعِ الْعَلَمِ، وَمَرَّ فِيهِ إِشْكَالٌ وَجَوَابُهُ، وَقَدْ قَالَ: الْأَشْرَفُ الْبِقَاعِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، الْقِيَاسُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ الِاثْنَانِ بِالْأَلِفِ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُهَا لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جُعِلَ اللَّفْظُ الْمُثَنَّى عَلَمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَأُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ (وَمِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثَّلَثَاءِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ الْأَوْلَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا، وَحَذْفِ الْأَلِفِ الْأُولَى فَيَكُونُ عَلَى زِنَةِ الْعُلَمَاءِ(وَالْأَرْبِعَاءِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِتَثْلِيثِ الْبَاءِ، وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ (وَالْخَمِيسَ) بِالنَّصْبِ فِيهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ فِيهِ لِيَصُومُ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ: أَمَّا أَعْلَامُ الْأُسْبُوعِ كَالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ فَمِنَ الْغَوَالِبِ فَيَلْزَمُهَا اللَّامُ وَقَدْ يُجَرَّدُ الِاثْنَيْنِ مِنَ اللَّامِ دُونَ أَخَوَاتِهِ، وَفَعَالَا إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْبَرَاكَا بِمَعْنَى الثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ، وَإِمَّا اسْمٌ كَالثَّلَاثَا وَإِمَّا صِفَةٌ كَالطِّبَاقَا، وَحَكَى عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ فَتْحُ الْبَاءِ فِيهِ، وَالْجَمْعُ أَرْبَعَاوَاتِ وَأَفْعَلَاءِ إِمَّا مُفْرَدٌ كَأَرْبِعَاءَ، وَإِمَّا جَمْعٌ كَأَنْبِيَاءَ، وَأَفْعُلَاءُ بِضَمِّ الْعَيْنِ كَأَرْبِعَاءَ وَقَدْ يُفْتَحُ الْبَاءُ فَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ انْتَهَى. وَفِي الْمُفَضَّلِ وَقَدْ يُضَمُّ الْهَمْزَةُ، وَالْبَاءُ مَعًا، وَهُوَ غَرِيبٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ هَذَا، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ سُنِّيَّةَ صَوْمِ جَمِيعِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، فَصَامَ مِنْ شَهْرٍ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمِنْ شَهْرٍ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصُمْ جَمِيعَ هَذِهِ السُّنَّةِ مُتَوَالِيَةً لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ قَبْلَ هَذَا أَيْ: فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ قَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا أَوْ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَسُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ خَلْقُ الْعَالَمِ بِخَلْقِ آدَمَ فَاجْتَمَعَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي الْوُجُودِ بِحَسْبِ الْعَالَمِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. (حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (الْمَدِينِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ الْمَدَنِيُّ وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ) أَيْ: نَفْلًا (فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ) وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صِيَامُ التَّطَوُّعِ حَتَّى لَا يُشْكَلَ بِصِيَامِ رَمَضَانَ، انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) أَيِ: ابْنُ غَيْلَانَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَدْ مَرَّ قَرِيبًا (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْهَا (قَالَتْ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَتْ: نَعَمْ قُلْتُ مِنْ أَيِّهِ) أَيْ: مِنْ أَيِّ شَهْرٍ يَعْنِي مِنْ أَيَّامِهِ (كَانَ يَصُومُ قَالَتْ: كَانَ لَا يُبَالِي) أَيْ: يَسْتَوِي عِنْدَهُ أَوْ كَانَ يُخَيَّرُ (مِنْ أَيِّهِ صَامَ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ أَوْ مِنْ أَيْ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ فِي أَثْنَائِهِ صَامَ، وَيُوَضِّحُهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ لَهَا مِنْ أَيِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَيِّهِ أَيِّ أَيَّامِهِ؛ لِأَنَّ أَيَّ إِذَا أُضِيفَ إِلَى جَمْعٍ مَعْرُوفٍ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَأَيِّ الرِّجَالِ جَاءَ أَيْ: أَزَيْدٌ أَمْ خَالِدٌ فَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ شَارِحٍ مُضَافًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّمِيرِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَى ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِئَلَّا يُظَنَّ تَعْيِينُهَا وُجُوبًا فَإِنَّ أَصْلَ السُّنَّةِ تَحْصُلُ بِصَوْمِ أَيِّ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَالْأَفْضَلُ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَتَالِيَيْهِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسَنُّ صَوْمُ الثَّانِي عَشَرَ احْتِيَاطًا وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةً مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرِ، وَكَذَا ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ، وَتَالِيَيْهِ وَمِمَّنِ اخْتَارَ صَوْمَ أَيَّامِ الْبِيضِ كَثِيرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حَضَرٍ، وَلَا سَفَرٍ قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَفَسَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِأَيَّامِ الْبِيضِ، وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاخْتَارَ النَّخَعِيُّ، وَآخَرُونَ ثَلَاثَةً فِي أَوَّلِهِ مِنْهُمِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاخْتَارَتْ عَائِشَةُ وَآخَرُونَ صِيَامَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرٍ ثُمَّ الثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ مِنْ آخَرَ، وَفِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ ابْنُ عُمَرَ أَوَّلُ اثْنَيْنِ فِي الشَّهْرِ، وَخَمِيسَانِ بَعْدَهُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَوَّلُ خَمِيسٍ، وَالِاثْنَيْنِ بَعْدَهُ ثُمَّ الِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَالْعَاشِرُ وَالْعِشْرُونُ، وَقِيلَ أَنَّهُ صَامَ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ صَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ، وَلَعَلَّهُ مَخَافَةَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا اقْتَضَى أَصْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ الْمَالِكِيُّ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَعِنْدِي أَنَّهُ يُعْمَلُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِقَوْلٍ، وَالْبَاقِي بِقَوْلٍ الْأَكْثَرِ الْأَشْهَرِ، وَهُوَ أَيَّامُ الْبِيضِ وَإِنْ قُدِرَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُلِّ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَهُوَ أَكْمَلُ، وَأَفْضَلُ (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ: المص (يَزِيدُ الرِّشْكُ هُوَ يَزِيدُ الضُّبَعِيُّ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَبُو الْأَزْهَرِ الْبَصْرِيُّ يُعْرَفُ بِالرِّشْكِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الشِّينِ ثِقَةٌ عَابِدٌ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ فِي صِحَاحِهِمُ (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرٍ (وَهُوَ ثِقَةٌ وَرَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ) أَيْ: مَعَ جَلَالَتِهِ (وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: كَثِيرُونَ (مِنَ الْأَئِمَّةِ) أَيْ: أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَنُقَّادِهِمْ، وَحُذَّاقِهِمْ، فَغَرَضُ التِّرْمِذِيِّ هُنَا بَيَانُ تَوْثِيقِ يَزِيدَ لَكِنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الضُّحَى، فَكَانَ الْأَنْسَبُ إِيرَادُ مَا يَتَعَلَّقُ تَوْضِيحُهُ هُنَالِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ، وَقَصَدَ التِّرْمِذِيُّ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ هَذَا هُنَا دُونَ مَا مَرَّ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ هُنَا يُعَارِضُهُ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ الْغُرَّةَ وَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَأَيَّامَ الْبِيضِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِتَنْصِيصِ أَيَّامِهِ، وَعَيَّنَهَا لِصَوْمِهِ، وَرُبَّمَا طَعَنَ طَاعِنٌ فِي يَزِيدَ بِهَذَا فَرَدَّهُ بِتَوْثِيقِهِ مَعَ الْإِرْشَادِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ لَا يُبَالِي بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ يَتْرُكُ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ، وَيَصُومُ غَيْرَهَا مِنْ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ فَلَمْ يَكُنْ يُلَازِمُ أَيَّامًا بِعَيْنِهَا لَا يَنْفَكَّ عَنْهَا نَظِيرُ مَا مَرَّ قَرِيبًا فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ لِقِيَامِهِ، وَمَنَامِهِ (وَهُوَ يَزِيدُ الْقَاسِمُ) أَيِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُ عِلْمَ الْقِسْمَةِ أَوْ كَانَ يُبَاشِرُهَا مِنْ جِهَةِ السَّلْطَنَةِ (وَيُقَالُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْقَسَّامُ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مُبَالَغَةُ الْقَاسِمِ (وَالرِّشْكُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ هُوَ الْقَسَّامُ) قَالَ مِيرَكُ: اخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَلْقِيبِ يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ بِالرِّشْكِ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ الرِّشْكَ الْقَسَّامُ بِلُغَةِ الْبَصْرَةِ يَعْنِي بِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مَاهِرًا فِي قِسْمَةِ الْأَرَاضِي وَحِرَفِهَا، وَقِيلَ الرِّشْكُ: اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ لُقِّبَ بِهِ لِكَثْرَةِ لِحْيَتِهِ، وَكَثَافَتِهَا، وَقِيلَ الرِّشْكُ الْعَقْرَبُ وَلُقِّبَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ عَقْرَبًا دَخَلَ لِحْيَتَهُ وَمَكَثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْرِي بِهِ لِكَثَافَةِ لِحْيَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لُقِّبَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَيُورًا فَكَانَ عَيْنَ الْغَيْرَةِ وَالرِّشْكِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قُلْتُ: الرَّشْكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَارِسِيٌّ بِمَعْنَى الْغَيْرَةِ، وَلَعَلَّهُ عُرِّبَ وَغُيِّرَ أَوَّلُهُ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الصِّحَاحِ هَذِهِ الْمَادَّةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الرِّشْكُ بِالْكَسْرِ: الْكَبِيرُ اللِّحْيَةِ، وَالَّذِي يَعُدُّ عَلَى الرُّمَاةِ فِي السَّبْقِ، وَأَصْلُهُ الْقَافُ، وَلَقَبُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ أَحْسَبِ أَهْلِ زَمَانِهِ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) وَكَذَا رَوَى عَنْهَا الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَعَ بَعْضِ تَخَالُفٍ فِي الْمَبْنَى لَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرٌ فِي الْمَعْنَى (قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ) بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ فَاعُولَاءُ بِالْمَدِّ غَيْرُهُ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِهِ تَاسُوعَاءُ فِي تَاسِعِ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ التَّاسِعُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِشْرِ بِالْكَسْرِ فِي أَوْرَادِ الْإِبِلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَاشُورَاءُ مَعْدُولٌ عَنِ الْعَاشِرَةِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْعِقْدِ، وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا قِيلَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةِ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ فَخَفُّوا اللَّيْلَةَ فَسَاغَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَاشُورَاءُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يُرْوَ لَهَا فِعْلٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمٌ مُدَّتُهُ عَاشُورَاءُ وَصِفَتُهُ عَاشُورَاءُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ (يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ) وَهُمْ أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَقِيلَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِفَةِ بِنَعْتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِذَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَيْضًا بِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيْشٌ ذَنْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ صُومُوا عَاشُورَاءَ يُكَفَّرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ فِي صَوْمِهِ إِلَى شَرْعِ مَنْ مَضَى كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ فِصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافَقَةً لَهُمْ كَمَا فِي الْحَجِّ أَوْ مُصَادَفَةً لَهُمْ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا فِعْلُ خَيْرٍ أَوْ مُطَابَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ نَدْبًا أَوْ فَرْضًا (فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أَيْ: فَصَارَ فَرْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَتْبَاعُهُ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ اتِّفَاقًا. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ، فَلْيَصُمْ وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ إِلَى اللَّيْلِ. وَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لِحُرْمَةِ الْيَوْمِ مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تُنَاسِبُ الْوُجُوبَ، وَقَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. اسْتُشْكِلَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ ثُمَّ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ بِصِيَامِهِ بَلْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَغَايَةُ مَا فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِ جَدِيدُ حُكْمٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةُ حَالٍ وَجَوَابُ سُؤَالٍ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَوَارُدِ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ كَمَا اسْتَأْلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ، وَبِالسَّبْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِمْ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحِبُّ فِيهِ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةَ، وَشُهِرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَحَبَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا، وَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ قَالَ: فِي آخِرِ حَيَاتِهِ لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ الْعَاشِرَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَيُشْعِرُ بِهِ بَعْضُ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، وَصُومُوا يَوْمًا بَعْدَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ أَدْنَاهَا أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَ صَوْمُهُ فَرْضًا (كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الْفَرِيضَةَ) يَعْنِي صَارَتِ الْفَرِيضَةُ مُنْحَصِرَةً فِي رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ مَعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ (وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُسِخَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ بِصِيَامِهِ (فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ) أَيْ: نَدْبًا (وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ)؛ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا شَكَّ أَنَّ قُدُومَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ، وَفُرِضَ رَمَضَانُ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ إِلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ فُوِّضَ الْأَمْرُ فِي صَوْمِهِ إِلَى رَأْيِ الْمُتَطَوِّعِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ فُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ صِيَامٌ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوَّلًا فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا فُرِضَ عَاشُورَاءُ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ نُسِخَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَقَالَ صَاحِبُ السِّيَرِ فُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلًا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ نُسِخَ فَرِيضَتُهُ بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِفْطَارِ بِالْأَعْذَارِ ثُمَّ يُحَتَّمُ عَلَيْهِمْ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَلَّ الْإِفْطَارُ إِلَى الْعِشَاءِ ثُمَّ حَلَّ إِلَى الصُّبْحِ. وَفِي الْوَسِيطِ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَاجِبًا، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَصَامُوا لِذَلِكَ ثُمَّنُسِخَ بِرَمَضَانَ وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِصَوْمِهِ ثُمَّ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ ثُمَّ زِيَادَتُهُ بِأَمْرِ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ ثُمَّ زِيَادَتُهُ بِأَمْرِ الْأُمَّهَاتِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ فِيهِ الْأَطْفَالَ، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا تُرِكَ اسْتِحْبَابُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَنَّ الْمَتْرُوكَ وُجُوبُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَيْ: مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْمَتْرُوكَ تَأْكِيدُ اسْتِحْبَابِهِ، وَالْبَاقِي مُطْلَقُ اسْتِحْبَابِهِ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ بَلْ تَأْكِيدُ اسْتِحْبَابِهِ بَاقٍ، وَلَاسِيَّمَا مَعَ اسْتِحْبَابِ الِاتِّصَافِ بِهِ حَتَّى عَامِ وَفَاتِهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي صَوْمِهِ وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْآتِيَةَ فَأَيُّ تَأْكِيدٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مَقْرُونٌ بِغَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَالتَّدْقِيقِ، وَنِهَايَةِ الِاتِّصَافِ بِالْإِنْصَافِ مَعَ التَّوْفِيقِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ بِمَا تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ، وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَصَرَفْتُ الْخَاطِرَ عَنْ فِكْرِهَا هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِسَائِلِهِ عَنْ صَوْمِهِ إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، فَقَالَ لَهُ هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، وَقَالَ: نَعَمْ وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ أَخْذًا مِنْ إِطْمَاءِ الْإِبِلِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ يَوْمِ الْوُرُودِ رَابِعًا، وَهَكَذَا فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ صَائِمًا بِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِلصَّوْمِ لِيُطَابِقَ مَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعِهِ فَأَصْبِحْ صَائِمًا إِذْ لَا يُصْبِحُ صَائِمًا بَعْدَ مَا أَصْبَحَ تَاسِعُهُ إِلَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصُومُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَهُ لِيُوَافِقَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا صَامَ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ جَاءَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ قِيلَ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ لِمُوسَى وَعَرَفَةُ مَنْسُوبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَرَدَ مَنْ وَسَعَّ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ السَّنَةَ كُلَّهَا، وَلَهُ طُرُقٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَسَانِيدُهَا كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَكِنْ إِذَا انْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَفَادَ قُوَّةً، وَصَحَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرٍ بَعْضَهَا، وَأَقَرَّهُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ قَالَ: وَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ أَصَحُّ طُرُقِهِ، فَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا مَا وَرَاءَ الصَّوْمِ وَالتَّوْسِيعِ فِي الْأُمُورِ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُورَةِ مَوْضُوعٌ، وَمُفْتَرَى وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الِاكْتِحَالَ فِيهِ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا قَتَلَةُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَكِنْ ذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ مَنِ اكْتَحَلَ بِالْإِثْمِدِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ أَبَدًا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ) وَفِي رِوَايَةٍ هَلْ كَانَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصُّ) وَفِي رِوَايَةٍ يَخْتَصُّ (مِنَ الْأَيَّامِ شَيْئًا) أَيْ: بِعَمَلِ نَافِلَةٍ كَصَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ (قَالَتْ: كَانَ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: لَا كَانَ (عَمَلُهُ دِيمَةً) بِكَسْرِ الدَّالِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، فَانْقَلَبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا؛ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عَلَى صِيغَةِ النَّوْعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ نَوْعُ دَوَامٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّ الدِّيمَةَ فِي الْأَصْلِ الْمَطَرُ الَّذِي لَا رَعْدَ فِيهِ، وَلَا بَرْقَ، وَفِيهِ سُكُونٌ، وَأَقَلُّهُ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثُ النَّهَارِ، وَأَكْثَرُهُ مَا بَلَغَ مِنَ الْعُدَّةِ ثُمَّ شُبِّهَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَهُ دَوَامٌ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الِاقْتِصَادِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا، وَوُقُوعُهُ فِي مَحَلِّهِ لَازِمًا قَالَ ابْنُ التِّينِ: اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ تَحَرِّي صِيَامِ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ وَأَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنَيِّرِ بِأَنَّ السَّائِلَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ؛ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا أَيَّامًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ تَخْصِيصِهِ مِنَ الْأَيَّامِ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّمَا خُصِّصَ لِأَمْرٍ لَا يُشَارِكُهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ كَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ، وَالْأَيَّامِ الْبِيضِ، وَجَمِيعِ مَا عُيِّنَ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمٍ لِكَوْنِهِ مَثَلًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِمَا أَحَادِيثُ، وَكَأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَلِهَذَا أَبْقَى التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِمَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصًا اسْتُثْنِيَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ لَا قُلْتُ وَرَدَ فِي صِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْجُرَشِيِّ عَنْهَا، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَحَدِيثُ أُسَامَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، فَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَلَى الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ الْمُرَادَ الْأَيَّامُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَكَانَ لِمَا سُمِعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَغِبَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ أَيَّامَ الْبِيضِ سَأَلَ عَائِشَةَ هَلْ كَانَ يَخُصُّهُ بِالْبِيضِ فَقَالَتْ: لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً يَعْنِي لَوْ جَعَلَهَا الْبِيضَ لَتَعَيَّنَتْ، وَدَاوَمَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ دَائِمًا لَكِنْ أَرَادَ التَّوْسِعَةَ لِعَدَمِ تَعْيِينِهَا فَكَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِ الشَّهْرِ صَامَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَا يُبَالِي مِنْ أَيِ الشَّهْرِ صَامَ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْبَابِ وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي صِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَحَدِيثَ كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَيْنَهَا تَعَارُضًا، وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ بِفَضْلِهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ شَارِحٌ: فَإِنْ قِيلَ الْجَوَابُ فِي مُقَابَلَةِ السَّائِلِ إِمَّا نَعَمْ أَوْ لَا قُلْنَا هَذَا جَوَابٌ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَعَنْ سُؤَالٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ لِأَنَّ دَوَامَ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ الْبِيضِ، وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمِ الْخَمِيسِ بِالصَّوْمِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِصَاصَهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِالصَّوْمِ مَعَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ (وَأَيُّكُمْ) جَزَمَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلشَّارِحِ أَنَّ الْخِطَابَ لِلصَّحَابَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يُفْهَمُ بِالْأَوْلَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ مِنْ جُمْلَةِ التَّابِعِينَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى وَأَيُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِكُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ أَوِ الْأَئِمَّةُ (يُطِيقُ مَا) أَيِ: الْعَمَلَ الَّذِي (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ) أَيْ: يُطِيقُهُ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ نَحْوَهُمَا، أَوْ أَيُّكُمْ يُطِيقُ فِي الْعِبَادَةِ كَمِّيَّةً أَوْ كَيْفِيَّةً مِنْ خُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَحُضُورٍ مَا كَانَ يُطِيقُهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ، وَالْمُوَاظَبَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ إِدَامَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِبَادَةَ وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَى وَظَائِفِهَا وَيُعَارِضُهُ مَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا مِمَّا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُدَاوَمَةِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ جَمِيعًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ قَوْلَهَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً مَعْنَاهُ أَنَّ اخْتِلَافَ حَالِهِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّوْمِ ثُمَّ مِنَ الْفِطْرِ كَانَ مُسْتَمِرًّا مُسْتَدَامًا أَوْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَظِّفُ عَلَى نَفْسِهِ الْعِبَادَةَ فَرُبَّمَا يَشْغَلُهُ عَنْ بَعْضِهَا شَاغِلٌ، فَيَقْضِيهَا عَلَى التَّوَالِي فَيَشْتَبِهُ الْحَالَ عَلَى مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَقَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً مُنَزَّلٌ عَلَى التَّوْظِيفِ، وَقَوْلُهَا كُنْتَ لَا تَشَاءُ تَرَاهُ صَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ صَائِمًا مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْصِدُ ابْتِدَاءً إِلَى يَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَيَصُومَهُ بَلْ إِذَا صَامَ يَوْمًا بِعَيْنِهِ كَالْخَمِيسِ مَثَلًا دَاوَمَ عَلَى صَوْمِهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالدَّوَامِ الْغَالِبُ لَا التَّمَامُ أَوْ كَانَ يُدَاوِمُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْأُمَّةِ بِالْمُتَابَعَةِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْوُجُوبِ أَوْ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ أَوْ لَمْ يَحْدُثْ أَمْرٌ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الشَّرِيعَةِ صَعْبَةٌ جِدًّا، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكَرُ تَرْكُ الْأَوْرَادِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا يُنْكَرُ الْفَرَائِضُ، وَلِذَا قِيلَ تَارِكُ الْوِرْدِ مَلْعُونٌ انْتَهَى، وَاسْتِغْرَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ حَسَنَةُ الْهَيْئَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ أَنَّهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا الْحَوْلَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ اسْمُهَا بَنَتُ تُوَيْتٍ بِمُثَنَّاتَيْنِ مُصَغَّرًا ابْنِ حَبِيبٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ابْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ رَهْطِ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ قُلْتُ: فُلَانَةُ) كِنَايَةٌ عَنْ كُلِّ عَلَمٍ مُؤَنَّثٍ فَهِيَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقَالَ الرَّضِيُّ: يُكَنَّى بِفُلَانٍ وَفُلَانَةَ عَنْ أَعْلَامِ الْأَنَاسِيِّ خَاصَّةً، فَيُجْرَيَانِ مَجْرَى الْمُكَنَّى عَنْهُ فَيَكُونَانِ كَالْعَلَمِ فَلَا يَدْخُلُهُمَا اللَّامُ، وَيَمْتَنِعُ صَرْفُ فُلَانَةَ وَلَا يَجُوزُ تَنْكِيرُ فُلَانٍ فَلَا يُقَالُ جَاءَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ آخَرُ (لَا تَنَامُ اللَّيْلَ) أَيْ: تَسْهَرُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلَاةٍ وَذِكْرٍ وَتِلَاوَةٍ وَنَحْوِهَا قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْحَوْلَاءَ مَرَّتْ بِهِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا دَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَامَتْ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَلَمَّا قَامَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذِهِ يَا عَائِشَةُ فَقُلْتُ هَذِهِ فُلَانَةُ، وَهِيَ أَعْبَدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا قَامَتْ لِتَخْرُجَ فَمَرَّتْ بِهِ فِي حَالِ ذَهَابِهَا فَسَأَلَ عَنْهَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهَا مَدَحَتْهَا فِي وَجْهِهَا، وَفِي مُسْنَدِ الْحَسَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَمَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ، فَيُحْمَلُ رِوَايَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ) أَيِ: الْزَمُوا، عَبَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْكُمْ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلنِّسَاءِ إِيمَاءٌ لِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ بِتَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَالْمَعْنَى اشْتَغِلُوا (مِنَ الْأَعْمَالِ) أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ (مَا تُطِيقُونَ) أَيِ: الْعَمَلَ الَّذِي تُطِيقُونَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَفِي نُسْخَةٍ مِمَّا تُطِيقُونَهُ فَمُتَطَوِّقُهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالِاقْتِصَادِ وَالِاخْتِصَارِ عَلَى مَا يُطَاقُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَلِذَا قِيلَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ كُلِّهِ وَقَدْ أَخَذَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: يُكْرَهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ كُلِّهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَاصًّا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: سَبَبُ وُرُودِهِ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ قَالَ مِيرَكُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ بِعُنْوَانِ الْبَابِ انْتَهَى، وَسَيَأْتِي لَهُ تَحْقِيقٌ آخَرُ. (فَوَاللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ (لَا يَمَلُّ) وَفِي أُخْرَى لَا يَمَلُّ اللَّهُ (حَتَّى تَمَلُّوا) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَقْطَعُ عَنْكُمْ فَضْلَهُ حَتَّى تَمَلُّوا عَنْ سُؤَالِهِ، فَتَزْهَدُوا فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِسْنَادُ الْمَلَالِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ عَلَى تَزْيِينِ الْمُشَاكَلَةِ وَتَحْسِينِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِلَّا فَالْمَلَالُ اسْتِثْقَالُ الشَّيْءِ، وَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مُحَالٌ، وَقَدْ صَرَّحَ التُّورِبِشْتِيُّ بِأَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَمَّنْ قُطِعَ عَنِ الْعَمَلِ مَلَالًا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَلَالِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ، وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمَلَالُ فُتُورٌ يَلْحَقُ بِالنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ الشَّيْءِ فَيُوجِبُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ؛ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ مَنْ يَتَغَيَّرُ، فَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمَلَالِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرِضُ عَنْكُمْ إِعْرَاضَ الْمَلُولِ، وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مَا بَقِيَ فِيكُمْ نَشَاطٌ وَأَرْيَحِيَّتُهُ فَإِذَا فَتَرْتُمْ فَاقْعُدُوا فَإِنَّكُمْ إِذَا أَتَيْتُمْ بِالْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْفُتُورِ وَالْمَلَالِ كَانَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ فِيكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَلُولِ عَنْكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ اللَّهُ وَتَمَلُّونَ، فَحَتَّى بِمَعْنَى الْوَاوِ فَنَفَى عَنْهُ الْمَلَلَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ وُجُودَهُ وَتَحَقُّقَهُ، وَتَوْضِيحَهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى هَاهُنَا لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا بَلْ مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ اللَّهُ أَبَدًا، وَإِنْ مَلِلْتُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيغِ لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ خُصُومُهُ أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ خُصُومِهِ بَلْ يَكُونُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ حِينَ يَنْقَطِعُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ، وَقِيلَ حَتَّى بِمَعْنَى حِينَ أَيْ: لَا يَمَلُّ إِذَا مَلِلْتُمْ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَلَلِ، وَلَيْسَ كَمَا فَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَوَهِمَ بِقَوْلِهِ إِذْ لَوْ مَلَّ حِينَ مَلُّوا لَمْ يُمَكِّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ، وَفَضْلٌ ثُمَّ قَالَ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ اللَّفْظَ أَصْلًا، وَالْمَزِيَّةُ وَالْفَضْلُ عَلَيْهِمْ وَاضِحَانِ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَفْظُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. (وَكَانَ أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رُوِيَ أَحَبُّ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَكَذَا بِالنُّسَخِ بِالْوَجْهَيْنِ لَكِنْ فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ بِالنَّصْبِ فَقَطْ فَمَحَلُّ قَوْلِهِ (الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ، وَالْمَعْنَى مَا يُوَاظِبُ عَلَيْهِ مُوَاظَبَةً عُرْفِيَّةً، وَإِلَّا فَالْمُدَاوَمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ مَقْدِرَةٌ. قَالَ شَارِحٌ: وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ، وَرَأْفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُهُمُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ وَضَرَرٍ، وَتَكُونُ النَّفْسُ أَنْشَطَ وَالْقَلْبُ أَشْرَحَ فَتُثْمِرُ الْعِبَادَةُ بِخِلَافِ مَنْ تَعَاطَى مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَشُقُّ؛ فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَتْرُكَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ بِكُلْفَةٍ أَوْ بِغَيْرِ انْشِرَاحِ الْقَلْبِ، فَيَفُوتُهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَادَ عِبَادَةً ثُمَّ فَرَّطَ بِقَوْلِهِ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}. (حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ شُكْرًا وَفِي نُسْخَةٍ الْفُضَيْلُ مُعَرَّفًا (عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ وَنَصْبِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ سُئِلَتْ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ لِلْغَائِبَةِ وَرُفِعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى النِّيَابَةِ (أَيُّ الْعَمَلِ) أَيْ: أَيُّ أَنْوَاعِهِ (كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتَا مَا دِيمَ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَا وُوظِبَ وَدُووِمَ عَلَيْهِ (وَإِنْ قَلَّ) أَيْ: وَلَوْ قَلَّ الْعَمَلُ؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يَنْقَطِعُ إِذْ بِدَوَامِ الْقَلِيلِ يَدُومُ الذِّكْرُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَهَذِهِ ثَمَرَاتٌ تَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، قَالَ الْمُظْهِرُ: لِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكِرُ أَهْلُ التَّصَوُّفِ تَرْكَ الْأَوْرَادِ كَمَا يُنْكِرُونَ تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ بَحْثٌ ثُمَّ قِيلَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرُ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَمَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ إِذْ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِصَوْمٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوْمِ فِيهِ مُنَاسِبَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا يُدَاوِمُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ فِيهِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مُوجَبِ الْمَلَالِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَاصِمَ بْنَ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً عَظِيمَةً كَأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (فَاسْتَاكَ) أَيِ: اسْتَعْمَلَ السِّوَاكَ (ثُمَّ تَوَضَّأَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَاكُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْوُضُوءِ، وَقِيلَ يَسْتَاكُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَضْمَضَةِ (ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) أَيْ: مُرِيدًا لِلصَّلَاةِ أَوْ نَاوِيًا لَهَا (فَقُمْتُ مَعَهُ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاقْتِدَاءِ فِي النَّفْلِ (فَبَدَأَ) أَيْ: شَرَعَ فِيهَا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِتَكْبِيرِ التَّحْرِيمَةِ (فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ) أَيْ: بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْبَقَرَةِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا فَاتِحَتُهَا (فَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ) أَيْ: عَنِ الْقِرَاءَةِ (فَسَأَلَ) أَيِ: الرَّحْمَةَ (وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْقَارِئِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ نَحْوِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} سَبَّحَ، وَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَوْ بِنَحْوِ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَعَلَّ هَذَا وَقَعَ فِي أَوَائِلِ الْحَالِ أَوْ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ كُلٌّ مِنَ النُّسَخِ وَالْخَصَائِصِ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا بَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ جَوَازِ مِثْلِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ النَّوَافِلِ إِذْ مِثْلُهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ (ثُمَّ رَكَعَ) عَطْفٌ عَلَى اسْتَفْتَحَ لَكِنْ لِطُولِ قِرَاءَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَرَاخِي الرُّكُوعِ عَنْ أَوَّلِهَا قَالَ ثُمَّ رَكَعَ (فَمَكَثَ) هَكَذَا فِي الْأَصْلِ بِفَتْحِ الْكَافِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} فَيَجُوزُ الضَّمُّ هُنَا أَيْضًا، وَالْمَعْنَى فَلَبِثَ (رَاكِعًا) أَيْ: مَكْثًا طَوِيلًا (بِقَدْرِ قِيَامِهِ) بِطُولِ قِرَاءَتِهِ الْبَقَرَةَ (وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ) أَيِ: الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِيهِ الْقَهْرُ (وَالْمَلَكُوتِ) أَيِ: الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِيهِ اللُّطْفُ، وَالْمَعْنَى بِهِمَا مُتَصَرَّفُ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ) أَيْ: صَاحِبُهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ أَيْ: أَهْلَكْتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِبْرِيَاءَ إِشَارَةٌ إِلَى الذَّاتِ الْمَنْعُوتِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ إِلَى الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ (ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ، وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ) قِيلَ فَعَلُوتُ مِنَ الْجَبْرِ وَالْمُلْكِ لِلْمُبَالَغَةِ (وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ) أَيْ: بَعْدَ تَمَامِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْقِيَامِ لِلثَّانِيَةِ (ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ سُورَةً سُورَةً) أَيْ: ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً فِي الثَّالِثَةِ، وَأُخْرَى فِي الرَّابِعَةِ فَفِيهِ حَذْفُ حَرْفِ الْعَطْفِ بِقَرِينَةِ مَا مَرَّ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِنْ أَنَّهُ قَرَأَ النِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ فَزَعَمَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ عُدُولٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُمَّ قَرَأَ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً أَيْ: قِيَامُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ فَصَاعِدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهِ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَوْفَقُ بِظَاهِرِ هَذَا السِّيَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ أَدَائِهَا سُورَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَفِي إِطَالَةِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ شَفْعَيْنِ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِعُنْوَانِ هَذَا الْبَابِ، وَحَكَى أَنَّهُ وَقَعَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَأَظُنُّ أَنَّ إِيرَادَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَعَ مِنْ تَصَرُّفِ النُّسَّاخِ وَالْكُتَّابِ، وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ لَفْظُ بَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَلَا بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَلَا بَابِ الصَّوْمِ بَلْ وَقَعَ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَيْلِ بَابِ الْعِبَادَةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْكَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ.
|